عندما تنازل الحسن بن علي رضي
الله عنهما عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان. أراد معاوية أن يثبت ولايته بأقدس
بقاع الأرض، والأقرب في الوقت نفسه إلى عاصمة الخلافة الأموية (دمشق). فأخذ البيعة
لنفسه في القدس تيمنا بها وطلبا لبركتها. كما قام بسك أول نقد يحمل اسم إيلياء (من
أسماء القدس) وعلى الوجه الآخر صورة له. كما حمل هذا النقد اسم فلسطين لأول مرة.
وزاد رضي الله عنه فقام في
بداية خلافته بإعادة بناء المصلى القبلي الذي بناه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في
الأقصى باستعمال الخشب. وكان يتسع في زمانه لألف مصل.
فلما جاء زمن معاوية كان الجامع
القبلي قد بدأ بالاهتراء وأصابه الخلل بسبب قدم أخشابه. فجدده معاوية ببناء من
حجارة. أصبح يتسع لثلاثة آلاف مصل.
وبقي هو المبنى الوحيد المسقوف
داخل الأقصى طوال هذه الفترة.
وبقي الأقصى على حاله إلى أن
تولى عبد الملك بن مروان الخلافة، فهو يعد أبرز الخلفاء الأمويين من حيث التشييد
والعمران، فقد كان هو الذي بدأ بتشييد العمران الضخم الكبير في المدن والبلدان
المختلفة. وكانت أبرز إنجازاته تشييده لأعظم وأبرز صرح عرفته البشرية، قبة الصخرة
المشرفة.
عرف عن عبد الملك بن مروان،
غيرته الشديدة عن الإسلام والعروبة.
فكان من إنجازاته تعريب
الدواوين وسك النقود الإسلامية الشهيرة. وقد ذكر أن عبد الملك أمر بالبدأ بتشييد
مجمع عظيم داخل الأقصى لإبراز مكانته وقدسيته. فأمر ببناء قبة الصخرة التي اعتبرت قبة
المسجد الأقصى المبارك آنذاك.
ذكر مجير الدين العليمي نقلا أن
عبد الملك بن مروان بلغه افتتان الناس بكنيسة القيامة وقبتها وعظمتها وضخامة
بنائها. فأعلن عن نيته في بناء قبة أضخم وأعظم تبرز مكانة الإسلام وأهمية الأقصى
فيه. تضاهي قباب البيزنطيين وأبنيتهم وتتفوق عليها. واختار لذلك قلب المسجد الأقصى
المبارك ومركزه: الصخرة المشرفة.
فقد تبين من خلال دراسة الآثار
أنه بنى قبة الصخرة لعدة اعتبارات منها:
-أن الصخرة المشرفة هي قلب
المسجد الأقصى ومركزه وهي أعلى نقطة داخل الأقصى مما يسمح برؤيتها من بعيد
-تكريم وتعظيم للصخرة المشرفة
على اعتبار أنها أرجح الأماكن التي وضع عليها سلم المعراج عند صعود رسول الله صلى
الله عليه وسلم الى السماء، فبناؤها والحفاظ على الصخرة مكشوفة داخلها هو تخليد
لحادثة الاسراء والمعراج العظيمة
-أراد أن تكون هذه القبة رمزا
لتمثيل الأقصى كله، لأن بعد بناء الجامع القبلي ساد بين الناس أنه المسجد الأقصى.
فأراد ببناء قبة الصخرة في وسط الأقصى تصحيح المفهوم وصرف الأنظار عن التركيز على
الجامع القبلي
ويظهر من شكل قبة الصخرة أنها
لم تبن لتكون مسجدا خاصا، بل كانت فكرتها منذ البداية أنها مجرد جزء من أجزاء
المسجد الأقصى المبارك. فتم بناؤها على شكل بناء مثمن الأضلاع، يختلف عن بناء
المساجد. كما بنى داخلها عدة محاريب لتبيان اتجاه القبلة.
وذكر بعض المؤرخين أنه تم بناء
قبة صغيرة نموذجا لقبة الصخرة. فلما زارها عبد الملك بن مروان. قال ابنوا أكبر
منها باثني عشر ضعفا وأنقصوا من الأضلاع. (هي قبة السلسلة)
فتم تجهيز مخطط بناء قبة الصخرة
بأضلاعها الثمانية، وبدئ العمل بها.
واستعملت قبة السلسلة لعدة
أغراض. فقد كانت المكان الرئيسي للإشراف على بناء قبة الصخرة.
وكان سليمان بن عبد الملك
يستعملها للجلوس مع حاشيته كلما زار القدس.
كما تزامن هذا البناء مع بناء
باب الرحمة والتوبة الذي أغلق لاحقا.
وذكر بعض الباحثين كالدكتور
هيثم الرطروط. أنه قد تم توسيع المسجد الأقصى نسبيا من الجهة الشمالية لتصبح قبة
السلسلة هي مركز المسجد.
ذكر المؤرخون أن بناء قبة
الصخرة قد تكلف به مهندسان، رجاء بن حيوة الكندي، تكلف بروح البناء وفلسفته.
والمهندس يزيد بن سلام، يقال أنه كان نصرانيا فأسلم. وهو المسؤول عن الهندسة
المعمارية في القبة. أما المسؤول العام والمشرف على البناء كان هو الوليد بن عبد
الملك.
واستمر العمل على هذا المشروع
العملاق سبع سنوات. انتهت سنة 72 من الهجرة.
ذر مجير الدين قصة زيادة بلغت
مائة ألف دينار. رفض المهندسان أخذها جزاء عملهما. فأمر أن يسبك هذا المال سبائك
ذهبية تكسى بها قبة الصخرة وأبوابها.
ومن الجدير بالذكر أن البناء في
الفترة الأموية بالذات يتميز عن كثير من الفترات اللاحقة، بنظرته الروحانية التي
تعتمد على تجسيد الايمان ومفردات العقيدة على أرض الواقع لإعطاء مزيد من الانطباع
بالجمال والعمق لهذا البناء.
فقبة الصخرة مثمنة الشكل وقد
بنيت على ثمانية مداميك تحمل القبة، وهذا يذكرنا بالآية الكريمة: ويحمل عرش ربك
فوقهم يومئذ ثمانية.
كما أن الأمويين بنوا في الجانب
الغربي منها ثلاثة محاريب متجاورة تذكر بالأماكن الثلاثة المقدسة في الإسلام: مكة
والمدينة وبيت المقدس.
والجانب الشمالي منها يحتوي على سبعة محاريب، تذكر بالأرضين السبع والسماوات السبع.
والجانب الشمالي منها يحتوي على سبعة محاريب، تذكر بالأرضين السبع والسماوات السبع.
كما أن الداخل الى قبة الصخرة
يجد أمامه خمسة أعمدة تذكر بالصلوات الخمس، وبأركان الإسلام الخمسة.
خاصة وأن المسجد الأقصى المبارك
هو أول أرض استقبلت الصلوات الخمس.
وبالنسبة الى الزخرفة
الفسيفسائية الأموية الإسلامية، فإن زوايا الأعمدة في التثمينة الداخلية تحتوي
الثمار والزروع التي ذكرت في القرآن الكريم. الزيتون والرمان والعنب.
ومن اللطيف أيضا أن وحدات زخرفة
قبة الصخرة تظهر للوهلة الأولى متشابهة إلا أنه لا توجد وحدة تشبه أخرى.
ولم يكتف البناة بذلك بل قد جمع
معطيات الزمن أيضا في قبة الصخرة المشرفة.
فجعلوا حول الصخرة أربع مداميك
تذكر بالفصول الأربعة، و12 عمودا رخاميا صغيرا للتعبير عن الاثني عشر شهرا، و52
شباكا بعدد أسابيع السنة.
وهذا كله يثبت أن بناء القبة لم
يكن تقليدا لأبنية الأمم السابقة كما يزعم البعض. وإنما كان إبداعا منقطع النظير
في تشكيل إيمانيات الفرد المسلم وعقيدته وتجسيدها.